الحلقة الثالثة
السؤال الرابع ما هي فلسفةُ الشعائر الحسينية، ما هي الحكمة ولماذا نحنُ نقيم الشعائر؟
لماذا لا نكتفي بأن نقرأ تاريخ الحسين ونقرأ معركة الحسين ونستلهم العظة والعبِرة من مبادئ الحسين من دون أن نمارس هذه الطقوس من البكاء ومن المأتم ومن المواكب العزائية ومن غيرها من الشعائر، لماذا لا نحصر التفاعل مع الحسين في التفاعل الفكري فقط من دون أن يكون هناك تفاعلٌ عاطفي ٌمع الحسين عِبر هذه الصور وعِبر هذه الشعائر، ما هي فلسفةُ الإصرار والثبات على هذهِ الشعائر وعلى هذهِ الألوان، نحنُ عندما نريد أن نّسلط الضوء على فلسفة الشعائر الحسينية نتّعرض لأمرين :
الأمر الأول: الإنسان يمتلك قوتين قوة العقل وقوة القلب وما لم تتفاعل هاتان القوتان فإنّ الإنسان لا يؤمن بأيّ قضيةٍ إيماناً فاعلاً وإيماناً حياً، الإيمان بأي قضية يتوقف على تفاعل هاتين القوتين يتوقف على تفاعل هاتين القوتين قوة العقل وقوة القلب ، قوة العقل تدرك وتحلل وقوة القلب تذعن وتتفاعل وتحزن وتفرح وتصدق وتكذب وتشكك وتتّيقن ، فهناك قوّتان لابد من تفاعلهما، لاحظوا مثلاً القرآن الكريم يقول (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ )[6] يشير إلى عدم تفاعل القوتين ، المشركون كانوا يؤمنون بعقولهم لكن ما كانت تتفاعل قلوبهم ، قوة العقل كانت تدرك ، " وَاسْتَيْقَنَتْهَا" أنفسهم يعني كان المتفاعل منهم قوة واحدة وهي قوة العقل، كانت عقولهم تدرك أنّ التوحيد هو المنهج الصحيح ، كانت عقولهم تدرك وجود الله ووحدانيته وصفاته ، كانوا يدركون ذلك بعقولهم لكن قلوبهم ما كانت تتفاعل مع عقولهم ، قلوبهم كانت تشكك كانت تنهج منهجا آخر، "جَحَدُوا" يعني بقلوبهم " وَاسْتَيْقَنَتْهَا "عقولهم فالقلب لم يتفاعل مع العقل لذلك لم تتحول القضية إلى قضية إيمانية راسخة لأن القوّتين لم تتفاعلا.
الإنسان عندما يوضع أمامه إنسان ميت في ظلام الليل يجعل أمامي إنسان ميت ، أنا ابدأ أتخوف مع انه إنسان ميت أبدأ أتخوف منه أتخوف من شكله أتخوف من النظر إليه لماذا؟؟ لأن القلب هنا لا يتفاعل مع العقل ، العقل يقول شيء والقلب يقول شيئاِ آخر، العقل يقول هذا ميّت صخرة لا يتحرك لا تخف منه ، لكن القلب لا يطاوع العقل ، العقل يقرر أنّ هذا جسدٌ صخرةٌ لا تتحرك ولا تقوم بأيّ محاولةٍ مخيفة ولكن القلب مع ذلك لا يطاوع العقل يظلُ القلب متردداً يظل القلب مشككاً يظل القلب قلقاً متخوفاً ، إذاً قد يؤمن العقل بشيء لكن القلب لا يتفاعل معه فتتخلف قوة القلب عن قوة العقل ، لذلك لا يتحول الإيمان إلى إيمان حي إيمان راسخ إلى إيمان فاعل، لأن القلب لم يطاوع العقل، لذلك من هذا المنطلق جاءت فكرة الشعائر الحسينية من أجل تفاعل القلب مع العقل.
من أجل أن تتعاطف كلا القوتين في التفاعل مع مبادئ الحسين ، الحسين مجموعة من المبادئ "كرامة حرية إصلاح" ، الحسين يختصر المبادئ الإنسانية والحقوق الإنسانية، حق الإنسانية في الحرية ،حق الإنسانية في الكرامة ،حق الإنسانية في الإصلاح ، الحسين لخّص الحقوق الإنسانية في قضيته لكنّ هذه المبادئ لا يمكن أن تتحول إلى إيمان راسخ إذا تفاعل العقل وحده ، إذا آمن بها العقل وحده ،لذلك احتجنا إلى شعائر حسينية وألوان وطقوس نمارسها من أجل أن يتفاعل القلبُ مع العقل ، ومن أجل أن تشترك كلا القوتين في الإيمان بهذهِ القضية حتى تتحول إلى إيمان راسخ وإلى إيمان حيٍ فاعل ، واعتقدوا لولا هذهِ الشعائر لما بقيت قضية الحسين كأصلٍ لا يتزلزل ولا يطرق إليه الشك إلى يومنا هذا ، إن بقاء صرخة الحسين حيةً إلى يومنا هذا كان ببركة هذه الشعائر التي ضمنت لنا تجاوب القلب مع العقل وتفاعل القلب مع العقل.
الأمر الثاني : الإنسان بطبعه كما ذكرنا عدة مرات مخلوقُ إحساسي لا مخلوقٌ عقلاني ، يعني الإنسان يفكر بإحساسه أكثر مما يفكر بعقله لما؟؟ لأن العقل يسترفد معلوماته من الإحساس ، الإنسان عنده عقل لكن عندهُ حواس خمس ، تصل إليه المعلومات ببركة الحواس الخمس ، الحواس الخمس هي الروافد والعقل هو الذي يستقبل المعلومات ، فبلحاظ أن الإنسان محاط بالحواس ولا يستطيع أن يقتنص المعلومات إلا من خلال الحواس لذلك يكون هذا الإنسان إنساناً إحساسياً، لا ينطلق عقله بأكثر من الأفق الحسي وبأكثر من المحيط الحسي ، دائما تفكيره ممتزج بالحواس تفكير إحساسي لا عقلاني محض، لاحظوا حتى الأمور المجردة إذا أراد أن يتصورها الإنسان لا يستطيع أن يتّصورها بدون حروف، حتى الأمور المجردة، لاحظوا هذا الإنسان لو قلت له تصّور أن الله قوةٌ لا حدّ لها ولا قيد لها، قوة مجرد من أيّ مادة من وأي قيد، ماذا يتصوّر الإنسان؟؟ يتصّور صورة مكونة من مجموعة من الكلمات ومن مجموعة من الحروف، إذاً لا يستطيع هذا الإنسان أن يتصور صورة إلا وهي حسية إلا وهي مأطّرة بإطار حسّي، لأنهُ مخلوقٌ إحساسي وليس مخلوقاً عقلانياً محض.
لأجل ذلك ومن هذا المنطلق احتاج هذا الإنسان إلى أن يجّسد الأفكار التجريدية والمعاني التجريدية التي يؤمن بها إلى صور حسّية حتى يتفاعل معها، الإنسان يؤمن إلى أنّ محور الوجود هو الله عزّ وجل، فسبحان الذي بيده ملكوتُ كل شيء وإليهِ تُرجعون، هو المبدأ وهو المنتهى، الإنسان يؤمن بذلك لكن عندما يريد أن يتصّور هذه المحورية تصّوراً فاعلاً يتصّور الكعبة المشرفة ،أنّ هناك كعبة والحجاج يطوفون بها فيكون طوافُ الحجاج بالكعبة رمز إلى محوّرية الله تبارك وتعالى لجميع هذا الكون ولجميع هذا الوجود، فالمعاني التجريدية ما لم يتصّورها الإنسان تصّوراً حسيا وفي ضمن طقوس حسيّة لا يؤمن بها إيمانا فاعلاً وحياً ، من هذا المنطلق جاءت الشعائر الحسينية فالحسين ليس مجرد مبادئ تقال في الذهن وتتبخر، الحسين طقوسٌ أيضاً، الحسين دمعة الحسين مأتم الحسين موكب الحسين صرخة الحسين صدى، هذهِ الطقوس الحسّية صوّرت لنا قضية الحسين ومعركة الحسين ومبادئ الحسين وسائر المعاني التجريدية صورّتها لنا تصوير حسّي حتى تقترب من أذهاننا وتقترب من أفقنا وتقترب من تفكيرنا فنؤمن بها ونتفاعل معها ونتجاوب معها، هذا هو السر وهذا هو المغزى في الشعائر الحسينية.

إرسال تعليق